ذاكرة النكبة في التاريخ الشفهي الفلسطيني
بقلم : الدكتور حسن عياش – فلسطين
قرأت سؤالاً على مركز الحسـو للدراسات الكمية والتراثية، في زاوية الملتقى للحوارطرحه الأستاذ الدكتور أحمد الحسو، مفاده: ما هي الوسائل العلمية والعملية التي يجدر اتباعها في تدوين التراث الشفهي؟ ويبدو أن اختيار الحسو هذا السؤال لم يكن اختياراً عشوائياً وزاده أهمية وتأثيراً حين قال: "إن الذاكرة تتضاءل مع تقادم الزمن، وإن تدوين ما تحتفظ به مهمة
وطنية وتاريخية يجب التحرك نحوها قبل فوات الأوان". بصراحة أقول: إنّ هذا القول أثّر في نفسي إلى حدّ لم تتحمل ذاكرتي اختزانه محفوظاً دون عمل، فمنحني حماسة خاصة.
إضافة لما سلف، فقد تحمست بصفتي أنتمي لهذا الشعب الفلسطيني، ولتتحول الحكايات الشفهيَّة إلى تاريخ نعمل على تدوينه، قبل فوات الأوان، وأشبعَ الكثيرَ من حاجاتي المهنية والعلمية، متذكراً أن هيرودوتس( Herodotus)، كان يقوم برحلات عدة، ليجمع الحكايات حول
تاريخ البلاد التي زارها؛ فطفت بعض القرى أبحث عنْ من هُجر من قريته، ومخزون ذاكرته
صافية لم يعتريها ضعف الذاكرة، تحتفظ مأساته آلام الفراق، فتعطي تفاصيل مرارة
التشريد والتهجير منذ حلت نكبة فلسطين.
حمَّست معي طلابي في مقرر القضية الفلسطينية، فانسجمت حماستي لتتلاقى حماستهم لترسم خيوطاً لهذه النكبة ..بدأ العمل ببساطة، وبجهود لا تزيد عن كاميرات تصوير وجوالات خاصة بهم .. متسلحين بحقهم وإيمانهم بقضيتهم العادلة متأثرين بذكريات آبائهم وأجدادهم،
مقتنعين بأن المقابلات الشفهيَّة التي سيجرونها هي وثائق تاريخية، وأن ما دُّون ويُدُُّون في الأعم الأغلب، هو وثائق شفهية أصلاً، وعلى هذا الأساس، تشجعوا لعملهم، فقابلوا أشخاصاً يتكئون على عكازات خشبية، وآخرين لا يستطيعون القيام عن أسِرتهم إلا أن ذاكرتهم حوت الكثير من
الحكايات عائدة إلى الوراء.. ومن صمت الأحزان غرق هؤلاء في ذكريات سنوات مضت من زمن النكبة واللجوء. التي لم تنته بعد لا حماسةَ الطلاب، ولا عودةَ هؤلاء الأشخاص المهجرين.
الملايين من اللاجئين يعيشون ذكرى البحث عن أرضهم المسروقة، قرى دمرمت نهائياً، وأخرى تبَّقى منها بعضُ الأطلال، إنهما مؤلميْن حقاً، ولم تغب كلاهما عن فكرهم طرفة عين ظل أبناؤها يحكون قصصاً تروي أطلالاً، تفجر في نفوسهم ينبوعاً لا ينطفئ ومن هذا الينبوع تتفجر ذكرياتهم المؤلمة على كارثة النكبة، ويتغنون لثوارهم حين كانوا يهاجمون القبانيات ...تكلموا عن مروج القمح في الربيع، وتذكروا أصحابهم وختياريتهم في المضافات ففيها أجمل الذكريات.
وكانوا يمتلكون قواشين تثبت ملكيتهم. وذاكرة حيّة عن الأباء والأجدادمعظم من قابلتهم من أبناء فلسطين من الكبار الذين ينوفون على السبعين عاماً، كل منهم بدأ كلامه متقطعاً مشتاقاً للوقوف على سلاسل حجرية عملوها حول أراضيهم في قراهم المنهوبة.
عندما أسألهم إن كان الزمن أنساهم قراهم التي هدمتها العصابات الصهيونية وأقصاهم الاحتلال عن ترابها قسراً، كانت إجاباتهم تكاد تجتمع ولا تكاد تفترق وتتلخص بألفاظهم " لو أعطوني ملايين المصاري ما بتخلى عن بلدي، ولا بيتي أخذوها بالقوة، وما قدرنا نردهم، المهم بقول لاولادي ولاولاد اولادي هذي أرضنا وبيوتنا أخذوها اليهود، ودمروها بس أخذوها غصب عنا المهم ما نوافق على اللي صار وبتظل أمانة في رقابنا تاترجع ونرجعلها "
لم ينس هؤلاء الآبار التي بحشوها- كما يقولون - ، عند إجرائي مقابلات معهم فإن
ألفاظاً ومفرداتٍ طغت على ألسنتهم، وهي: القواشين والطوابين والمضافات والمرداونات والخانات والدكاكين والكرمية والعسلية والباطية الخشبية والبهائم والبيادر والتعامير والمونة والخروب والحصيدة واليرغول والشبابة.
بقلم : الدكتور حسن عياش – فلسطين
قرأت سؤالاً على مركز الحسـو للدراسات الكمية والتراثية، في زاوية الملتقى للحوارطرحه الأستاذ الدكتور أحمد الحسو، مفاده: ما هي الوسائل العلمية والعملية التي يجدر اتباعها في تدوين التراث الشفهي؟ ويبدو أن اختيار الحسو هذا السؤال لم يكن اختياراً عشوائياً وزاده أهمية وتأثيراً حين قال: "إن الذاكرة تتضاءل مع تقادم الزمن، وإن تدوين ما تحتفظ به مهمة
وطنية وتاريخية يجب التحرك نحوها قبل فوات الأوان". بصراحة أقول: إنّ هذا القول أثّر في نفسي إلى حدّ لم تتحمل ذاكرتي اختزانه محفوظاً دون عمل، فمنحني حماسة خاصة.
إضافة لما سلف، فقد تحمست بصفتي أنتمي لهذا الشعب الفلسطيني، ولتتحول الحكايات الشفهيَّة إلى تاريخ نعمل على تدوينه، قبل فوات الأوان، وأشبعَ الكثيرَ من حاجاتي المهنية والعلمية، متذكراً أن هيرودوتس( Herodotus)، كان يقوم برحلات عدة، ليجمع الحكايات حول
تاريخ البلاد التي زارها؛ فطفت بعض القرى أبحث عنْ من هُجر من قريته، ومخزون ذاكرته
صافية لم يعتريها ضعف الذاكرة، تحتفظ مأساته آلام الفراق، فتعطي تفاصيل مرارة
التشريد والتهجير منذ حلت نكبة فلسطين.
حمَّست معي طلابي في مقرر القضية الفلسطينية، فانسجمت حماستي لتتلاقى حماستهم لترسم خيوطاً لهذه النكبة ..بدأ العمل ببساطة، وبجهود لا تزيد عن كاميرات تصوير وجوالات خاصة بهم .. متسلحين بحقهم وإيمانهم بقضيتهم العادلة متأثرين بذكريات آبائهم وأجدادهم،
مقتنعين بأن المقابلات الشفهيَّة التي سيجرونها هي وثائق تاريخية، وأن ما دُّون ويُدُُّون في الأعم الأغلب، هو وثائق شفهية أصلاً، وعلى هذا الأساس، تشجعوا لعملهم، فقابلوا أشخاصاً يتكئون على عكازات خشبية، وآخرين لا يستطيعون القيام عن أسِرتهم إلا أن ذاكرتهم حوت الكثير من
الحكايات عائدة إلى الوراء.. ومن صمت الأحزان غرق هؤلاء في ذكريات سنوات مضت من زمن النكبة واللجوء. التي لم تنته بعد لا حماسةَ الطلاب، ولا عودةَ هؤلاء الأشخاص المهجرين.
الملايين من اللاجئين يعيشون ذكرى البحث عن أرضهم المسروقة، قرى دمرمت نهائياً، وأخرى تبَّقى منها بعضُ الأطلال، إنهما مؤلميْن حقاً، ولم تغب كلاهما عن فكرهم طرفة عين ظل أبناؤها يحكون قصصاً تروي أطلالاً، تفجر في نفوسهم ينبوعاً لا ينطفئ ومن هذا الينبوع تتفجر ذكرياتهم المؤلمة على كارثة النكبة، ويتغنون لثوارهم حين كانوا يهاجمون القبانيات ...تكلموا عن مروج القمح في الربيع، وتذكروا أصحابهم وختياريتهم في المضافات ففيها أجمل الذكريات.
وكانوا يمتلكون قواشين تثبت ملكيتهم. وذاكرة حيّة عن الأباء والأجدادمعظم من قابلتهم من أبناء فلسطين من الكبار الذين ينوفون على السبعين عاماً، كل منهم بدأ كلامه متقطعاً مشتاقاً للوقوف على سلاسل حجرية عملوها حول أراضيهم في قراهم المنهوبة.
عندما أسألهم إن كان الزمن أنساهم قراهم التي هدمتها العصابات الصهيونية وأقصاهم الاحتلال عن ترابها قسراً، كانت إجاباتهم تكاد تجتمع ولا تكاد تفترق وتتلخص بألفاظهم " لو أعطوني ملايين المصاري ما بتخلى عن بلدي، ولا بيتي أخذوها بالقوة، وما قدرنا نردهم، المهم بقول لاولادي ولاولاد اولادي هذي أرضنا وبيوتنا أخذوها اليهود، ودمروها بس أخذوها غصب عنا المهم ما نوافق على اللي صار وبتظل أمانة في رقابنا تاترجع ونرجعلها "
لم ينس هؤلاء الآبار التي بحشوها- كما يقولون - ، عند إجرائي مقابلات معهم فإن
ألفاظاً ومفرداتٍ طغت على ألسنتهم، وهي: القواشين والطوابين والمضافات والمرداونات والخانات والدكاكين والكرمية والعسلية والباطية الخشبية والبهائم والبيادر والتعامير والمونة والخروب والحصيدة واليرغول والشبابة.